كيفما تكونوا يولى عليكم
بقلم- راشد الراشد - كاتب بحريني
قصة طريفة تعكس ما تعكس من حجم ما وصلت إليه الأمور في عقولنا التي أختلط عليها المعقول باللامعقول في عالم المناكافات والمماحكات السياسية ، فنهرول في الإتجاهات فقط التي يريد أهل الحكم والسلطة لنا أن نهرول ناحيتها حتى ولو كان على حساب آدميتنا وكرامتنا ، ونحن أشبه بالموات فنشييد عروشا للطغيان بغض الطرف عن طغيانهم وظلمهم وعسفهم وجورهم وذلك عبر دعم مشاريعهم في السيطرة وتمكينهم من ممارسة المزيد من الإذلال والتهميش والإقصاء ، ثم يدعونا المستبد لمؤازرته في الدخول في إطار سلطته المستبدة ، فنهرول مسرعين إلى ذلك وعلى جماجم فلاذات أكبادنا الذين راحو ضحية الدفاع عن حريتنا وكرامتنا ودون أن نحدث أنفسنا عن مسؤوليتنا تجاه ذلك . ونعطي للحاكم الظالم الشرعية ونهبها له صاغرين مذعنين وكأنها مشيئة الخالق وأنه قدرنا الذي يجب أن نرخي له أعراضنا ونوامسينا وكرامتنا وشرفنا لكي يدوسه الحاكم الظالم والطاغوت المتعجرف علنا وجهارا وعلى مرأى منا ثم المطلوب منا هو مباركته عبر الدخول في نظامه السياسي بالطريقة التي يريدها هو لتدعيم عرشه وتكريس سلطانه علينا . فنبتهل إلى الله بقبول الطاعات ونحن نعطي للحاكم الظالم المستبد الشرعية على ظلمنا واستعبادنا واستحمارنا وإذلالنا وإهانتنا في كل لحظة وعند كل زاوية في حياتنا ...
وهذه هي القصة .
تبدأ القصة في زاوية قصية .. وبعيد عن أعين الإعلام ... حيث كان الجزار يحد سكينه ويجهز كلاليبه ... في تلك اللحظة كانت الخراف في الزريبة تعيش وتاكل وتشرب وكأنها قد جاءت الى تلك الزريبة بضمان الخلود.
دخل الجزار فجأة الى وسط الزريبة فأدركت "الخرفان" بحسها الفطري أن الموت قادم لامحالة. وقع الاختيار على احد الخراف .. وأمسك الجزار بقرنيه يسحبه الى خارج الزريبة ... ولكن ذلك الكبش كان فتيا في السن ذو بنية قوية وجسما ممتلئا وقرنين قويين ... وقد شعر برهبة الحدث .. وجبن الموقف ..وهو يقاد الى الموت ... فنسي الوصية رقم واحد من دستور القطيع ... وهي بالمناسبة الوصية الوحيدة في ذلك الدستور ... وكان قد سمع تلك الوصية قبل ساعات من كبار الخرفان في الزريبة .... وكانت الوصية تقول :- حينما تقع عليك اختيار الجزار فلا تقاوم فهذا لن ينفعك بل سيغضب منك الجزار ويعرض حياتك وحياة افراد القطيع الآخرين للخطر!!!
قال هذا الكبش في نفسه : هذه وصية باطلة ودستور غبي لاينطلي حتى على قطيع الخنازير ..فكيف بنا نحن الخراف ونحن أشرف وأطهر..... فاذا كانت مقاومتي لن تنفعني في هذا الموقف... فلا أعتقد انها ستضرني... اما قولهم ان مقاومتي ستغضب الجزار وقد يقتل جميع الخرفان ...فهذا من الغباء... فما جاء بنا هذا الجزار الى هذه الزريبة الا وقد أعد عدته ورسم خطته ليذبحنا واحدا بعد الاخر.... فمقاومتي قد تفيد ولكنها بلا شك لن تضر.
انتفض ذلك الكبش انتفاضة الاسد الهصور.... وفاجأ الجزار..... واستطاع ان يهرب من بين يديه ليدخل في وسط القطيع حيث نجح في الافلات من الموت الذي كان ينتظره. لم يكترث الجزار بما حدث كثيرا... فالزريبة مكتظة بالخراف ولاداعي لتضييع الوقت في ملاحقة ذلك الكبش الهارب.....
أمسك الجزار بخروف اخر ولكنه كان مسالما ومستسلما وجره من قرنيه وخرج به من الزريبة... ولم يبد اية مقاومة..... الا صوتا خافتا يودع فيه بقية القطيع. نال ذلك الخروف اعجاب جميع الخرفان في الزريبة... وكانت جميعها تثني عليه بصوت مرتفع وتهتف باسمه... ولم تتوقف عن الهتاف حتى قاطعها صوت الجزار الجهوري وهو يقول: بسم الله والله أكبر.
خيم الصمت على الجميع ....وخاصة بعد ان وصلت رائحة الموت الى الزريبة. ولكنهم سرعان ماعادوا الى اكلهم وشربهم مستسلمين لمصيرهم الذي يرفض أي فكرة لمقاومة الجزار. وهكذا بقيت الخراف في الزريبة تنتظر الموت واحدا بعد الاخر... وفي كل مرة ياتي الجزار ليأخذ احدهم لاتنسى بقية الخراف بان توصيه على الموت على دستور القطيع "لا ثم لا للمقاومه" ...!!
وكان الجزار وتوفيرا للوقت والجهد.... اذا وجد خروفا هادئا مطيعا... فانه يأخذ معه خروفا اخر. وكل مازاد عدد الخراف المستسلمة ... زاد طمع الجزار في أخذ عدد اكبر في المرة الواحدة... حتى وصل به الحال أن يمسك خروفا واحدا بيده وينادي خروفين اخرين او ثلاثة او اكثر لتسير خلف هذا الخروف الى المسلخ ... وتنساق خلف بعضها تحت أهم مادة في الدستور "لا ثم لا للمقاومة" ، وهو يقول: يالها من خراف مسالمة... لم احترم خرافا من قبل قدر ما احترم هذه الخراف ... انها فعلا خراف تستحق الاحترام.
كان الجزار من قبل يتجنب أن يذبح خروفا امام الخراف الاخرى حتى لايثير غضبها وخوفا من أن تقوم تلك الخراف بالقفز من فوق سياج الزريبة والهرب بعيدا... ولكنه حينما رأى استسلامها المطلق .. أدرك أنه كان يكلف نفسه فوق طاقته... وان خرافه تلك تملك من القناعة بمصيرها المحتوم ما يمنعها من المطالبة بمزيد من الحقوق... فصار يجمع الخراف بجانب بعضها... ويقوم بحد السكين مرة واحدة فقط ... ثم يقوم بسدحها وذبحها... والاحياء منها تشاهد من سبقت اليهم سكين الجزار... ولكن... كانت الوصية من دستور القطيع تقف حائلا امام أي احد يحاول المقاومة او الهروب... "لا تقاوم"...
في مساء ذلك اليوم وبعد أن تعب الجزار وذهب لاخذ قسط من الراحة ليكمل في الصباح ما بدأه ذلك اليوم ... كان الكبش الشاب قد فكر في طريقة للخروج من زريبة الموت واخراج بقية القطيع معه كانت الخراف تنظر الى الخروف الشاب وهو ينطح سياج الزريبة الخشبي مندهشة من جرأته وتهوره. لم يكن ذلك الحاجز الخشبي قويا...... فقد كان الجزار يعلم أن خرافه أجبن من أن تحاول الهرب.
وبعد المحاولة وجد الخروف الشاب نفسه خارج الزريبة.... وهو لم يكد يصدق عينيه... صاح في رفاقه داخل الزريبة للخروج والهرب معه قبل أن يطلع الصباح ولكن كانت المفاجأة أنه لم يخرج أحد من القطيع .. وكانت الطامة الكبرى بأن الرفاق كانوا جميعا يشتمون ذلك الكبش ويلعنونه و يرتعدون خوفا من أن يكتشف الجزار ماحدث...
وقف ذلك الكبش الشجاع ينظر الى القطيع..... في انتظار قرارهم الاخير...
تحدث افراد القطيع مع بعضهم في شأن ما اقترحه عليهم ذلك الكبش من الخروج من الزريبة والنجاة بانفسهم من سكين الجزار... وجاء القرار النهائي بالاجماع مخيبا ومفاجئا للكبش الشجاع ... حيث قرروا بالإجماع على عدم الفرار والحكم بالإعدام على الكبش المقاوم لأنه إنتهك دستور "لا للمقاومة" ، فأنهالوا عليه نطحا ورفسا حتى مزقوه إربا إربا وفارقت روحه الحياة ..!
في صباح اليوم التالي .....جاء الجزار الى الزريبة ليكمل عمله... فكانت المفاجأة مذهلة... سياج الزريبة مكسور... ولكن القطيع موجود داخل الزريبة ولم يهرب منه أحد...... ثم كانت المفاجأة الثانية حينما رأى في وسط الزريبة خروفا ميتا... وكان جسده مثخنا بالجراح وكأنه تعرض للنطح... نظر اليه ليعرف حقيقة ماحدث.... صاح الجزار... ياالله ... انه ذلك الكبش القوي الذي هرب مني يوم بالأمس!!!
نظرت الخراف الى الجزار بعيون الامل ونظرات الاعتزاز والفخر بما فعلته مع ذلك الخروف "الارهابي" الذي حاول أن يفسد علاقة الجزار بالقطيع ويعرض حياتهم للخطر! كانت سعادة الجزار أكبر من أن توصف... حتى أنه صار يحدث القطيع بكلمات الاعجاب والثناء وبدأ ينزل عليهم من مكرماته العظام :
أيها القطيع .. كم افتخر بكم وكم يزيد احترامي لكم في كل مرة اتعامل معكم...
ايها الخراف الجميلة ...لدي خبر سعيد سيسركم جميعا... وذلك تقديرا مني لتعاونكم منقطع النظير... أنني وبداية من هذا الصباح... لن أقدم على سحب أي واحد منكم الى المسلخ بالقوة... كما كنت أفعل من قبل... فقد اكتشفت انني كنت قاسيا عليكم وان ذلك يجرح كرامتكم.... وكل ما عليكم أن تفعلونه يا خرافي الاعزاء أن تنظروا الى تلك السكين المعلقة على باب المسلخ... فاذا لم تروها معلقة فهذا يعني أنني أنتظركم داخل المسلخ... فليأت كل واحد منكم بعد الاخر... وإعدكم بأن جلودكم التي سوف نسلخها سوف لن نصدرها للخارج . وفي الختام لا انسى أن اشيد بدستوركم العظيم ...... "لا للمقاومة"...!!!
انتهت القصة وهنا ياتي السؤال : ما هو أصل هذه الخراف ؟
والجواب :
"كيفما تكونوا يولى عليكم" !
http://www.alsanabis.com/index.php?show=art&newsID=6492